د.أحمد جاد مدير المنتدى
عدد المساهمات : 151 تاريخ التسجيل : 25/06/2008 العمر : 63
| موضوع: القصة القصيرة جدا 3 الخميس يوليو 03, 2008 8:57 am | |
| القسم الثالث): ــــــــــــــــــــــ 2-الشعرية: ويتصل بالتكثيف ما تتمتع به كثير من القصص القصيرة جدا من الشعرية المجنحة، التي تضفي على عالم القص ـ من خلال التلاعب بالنظام اللغوي بين المعيارية والإيحائية ـ صورةً تحمل رؤية للإحباطات التي نواجهها في عالمنا، وتحمل العديد من الدلالات المباشرة المفتوحة على دلالات ـ نجدها بالتأمل ـ أكثر اتساعاً، وتكشف عن هموم الإنسان الذي يطمح إلى عالم أكثر متعةً وإنسانية بينما تتهدده الأخطار في كل لمحة، وعند كل ثنية من طريقه. يقول جبير المليحان في قصة «سجّادة» : «قلت لصديقي: لقد كبرت بهجتي وامتدت كربيع وأنا أدخل إلى البيت وأسمع السجادة العتيقة القديمة تئن! تراءت لي دهشة عينيه كبريق لعلامة نصر! قلت له : عن بكائها … نعم : هو بكاء وليس أنينا، ( لقد ألصقت أذني بها وسمعتها تهمي ببكاء خافت ، و بعيد ، مثل أنين المهزومين في مباراة الحياة … ) قال: - فقط إنها سجادة تطؤها كل الأقدام : أقدام الكل ... يا لألمي عندما قال : - أنا لم أرها في يوم ترفع رأسا؟! دويت في وجهه : - إذن كيف أنّت ؟!»(1). وهي قصة قصيرة جدا تكشف عن زيف واقعنا، وأننا تعودنا على رؤيته كما هو موجود ولا نراه كما ينبغي أن نراه؛ ولأن السجادة تعودت على أن ندوسها، تعوّدنا على رؤيتها هكذا، بينما الذي يرى استطاع أن يبصرها، ويسمعها وهي تهمي ببكاء خافت، و بعيد، مثل أنين المهزومين في مباراة الحياة … ، فهل يكون هذا بداية للوعي والثورة والتمرد.. وهل تعي شعوبنا هذه المقولة لهذه القصة التي تقول في كلمات ما لا تقوله الصحف في أنهرها السوداء المنسابة على أعيننا كالغشاوة، فلا تجعلنا نبصر ما يجب أن نبصره، وأن المهمشين الذين يُداسون في طرق الحياة يُمكن أن يثوروا ويتمردوا ذات يوم؟!! وتتناول القصص القصيرة جدا عالم الإنسان الصغير الذي تكتنفه محاولات القهر والإغواء، لكنه عالم طبيعي نحس به ونشعر به ونرى مثله في حياتنا، لكن القصص تأخذه وتحاول إكسابه مسحة من الشعرية والترميز(2). ومن النصوص التي تبرز فيها الشعرية نصوص فهد العتيق وجبير المليحان ومحمد المخزنجي، ومجدي جعفر ... وغيرهم. يقول فهد العتيق في نص يعبر عن الأمل في المستقبل بعنوان «ربما يأتون»: «ربما يتركون بيتهم القديم ، ويأتون ، أخيراً . يأتون إلى مدينتنا التي ستحتفل بأرواحهم المبتهجة وملامحهم الجميلة. يأتون إلينا .. يأخذون بيتاً جوار بيتنا ، فنسمع أصواتهم في الليل والنهار .. ربما يتركون بيتهم، يحمّلون سيارتهم ويدخلون المدينة من كل أبوابها دفعة واحدة، ثم تتبعثر أقدامهم في تراب حارتنا ، وتنطق مهرة الغناء في أرواحنا . ربما يأتون ، هم ودماؤهم ، وبعض أسرار الطريق . ينظرون خلفهم إلى بيتهم القديم وآثار أعمارهم .. ثم .. يأتون إلينا .. ربما ... »(3). ومن القصص التي تبرز فيها الشعرية قصة «الأرض» لجبير المليحان، التي تتناول الحياة الإنسانية وإشكالاتها، من خلال نص موغل في البساطة: أخذ الطفل الصلصال، وصنع منه كرة كبيرة، وضعها في منتصف ألعابه: تسلقتها الأسود، والنمور، والقطط، والأطفال، والفراشات، والسيارات، والطائرات … فاجأته أمه وهو يُعينها، ويُثبتها في أماكنها، مصدراً أصواتها الخاصة .. - ما هذا ؟ - هذه الأرض ! وأشار إلى موقع بيتهم فيها: كان سريره هناك . بعد قليل، عادت الأم على صراخه الحاد، شاهدته يرفع قبضته محتداً، ومنتحباً : - لقد داس أخي الكبير الكرة وهو يمر من هنا ! كانت كرة الصلصال تلتصق بالأرض، والسكان يتناثرون»(4). ومن هذه الشعرية الشفيفة قصة قصيرة جدا تتحدث عن زوجةٍ تعيش منفردة، لأن زوجها يعمل في الخليج، ويحاول الذئب أن يتودد للأولاد أولاً، ليجد مدخلاً بعد ذلك لقلب ـ أو قل لجسد ـ المرأة، وتعبر عما تُريد في فنية واقتدار، دون أن تلجأ إلى كلمةٍ نابيةٍ واحدة: «في زيارته الأولى جاء لابني الصغير بطائرة بالريموت كنترول، تطير لتسلم على أبيه في بلاد البترول. في زيارته الثانية جاء لابنتي بعصفورين في قفص ليطيرا ويُسلما على أبيها في بلاد البترول. في زيارته الثالثة جاء لابني الكبير ببلوك نوت وقلم جميل، ليكتب ويُسلم على أبيه في بلاد البترول. في زيارته الرابعة جاء لي بلفافة كبيرة مزركشة .. فتحتها تصاعدت الدماء لوجهي. خرج حاملاً إياها مُضافاً لها رذاذ بصقة»(5). ونقصد بالشعرية في النص السابق اللغة التي يوردها الروائي في نصه متجاوزاً بها حدود الزمان والمكان والشيء الموصوف نفسه. وقد رأينا في هذه القطعة التي يتقاطع فيها المكاني (مصر والخليج)/ مع الزماني (الزيارت المتكررة في أزمان مُتقاربة) لتصل الساردة إلى هدفها من القص، وه إبراز غواية الرجل للمرأة التي سافر زوجها وتركها وحيدةً للذئاب. والشعرية تتدفق في القصة القصيرة جدا من انهمار لغوي «لا يستمد عذوبته من فصاحة الكلمات، ولا من صليل الإيقاع اللغوي الجهير، وإنما من موسيقى الحياة الأليفة، وهي تغمرك بضباب حلو من تفصيلات حية تتفتح عنها ذاكرتك وأنت تمتزج بها وأنت تقرأه فتحقق بينك وبينه درجة عالية من «التماهي» .. »(6) يُساعد عليه السارد عندما يعبر عنك وهو يصف موقفه وشخوصه بصدق بالغ». وهذا ما يحاول مبدع القصة القصيرة جدا ـ أن يُقدمه من خلال مقدمات عادية، لتبني عليها رؤية مُفارقة ـ تُريدُ أن تقول كلاماً آخر ـ كما رأينا في القصة القصيرة جدا السابقة، وكما تقدمه هيام صالح في قصة قصيرة جدا بعنوان «بالألوان» هذا نصُّها: «حين أدرتُ تلفاز أحلامي .. جاء العرض باللونين الأبيض والأسود .. ظللتُ أتململ. فجأة اصطبغت الشاشة بلونٍ واحد .. الأسود فقط. كانت الأيدي تُكبِّلني لمقعدي حتى أستمر لنهاية العرض الحزين. حين وجدت «الريموت» المفقود ضغطت الزر .. انسحب اللون الأسود من الحلم ببطء شديد، وبدت خطوط ملونة تتسلّل لتصبغ الشاشة، لكن على استحياء!» (7). رغم اكتناز القصة وتكثيفها فعالمها ثري وخصب، مفرداته كثيرة الإشارات، ولغتها تحاول أن تكون شعرية حية؛ وإن أخذنا عليها استعمال الألفاظ الأجنبية، مثل «بلوت نوت» و«بازار» و«ريموت كنترول » ... وغيرها. ـــــــــــــ الهوامش: (1) جبير المليحان: سجادة، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 24/9/2002م. (2) د. خليل الموسى: من مصطلحات النقد الأدبي : "الشعريّة"، جريدة الأسبوع الأدبي ـ العدد 774 تاريخ 8/9/2001م. (3) فهد العتيق: ربما يأتون: موقع القصة العربية 1/7/2002م. (4) جبير المليحان: الأرض، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 7/7/2002م. (5) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص72. (6) د. صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، سلسلة «كتابات نقدية»، العدد (36)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1995م، ص65. (7) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص80. *** (يتبع) | |
|