(القسم الرابع)
................
3-المُفارقة التصويرية:
عرف النقد العربي القديم والبلاغة العربية القديمة لوناً من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وقد عولج تحت اسم «الطباق» في صورته البسيطة، و«المُقابلة» في صورته المركبة، أما «المُفارقة التصويرية» فهي «طريقة في الأداء الفني مختلفة تماماً عن الطباق والمقابلة، سواء من ناحية بنائها الفني، أو من ناحية وظيفتها الإيحائية، وذلك لأن «المفارقة التصويرية» تقوم على إبراز التناقض بين طرفين كان من الفروض أن يكونا متفقين، و«التناقض في المُفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان من شأنها أن تتفق وتتماثل»(1). والأديب المعاصر يستغل هذه العملية في تصوير بعض المواقف والقضايا التي يبرز فيها هذا التناقض، ليلفت نظرنا إلى شيء يريد إبرازه، أو فكرة يُريد توضيحها.
ومن هذه القصص التي تعتمد على المفارقة التصويرية قصة «سوء تشخيص!» لأحمد جاسم الحسين ، ونصها:
«أشارت التحليلات الأولية إلى احتمال أن تكون الكتلة الموجودة في بطنه سرطانية 000
لما أجريت العملية كانت المفاجأة عالية،إذ وجدوا مجموعة من الخطابات والشعارات والصور المنشورة في جريدة رسمية »(2).
وتقول هيام عبد الهادي صالح في قصة قصيرة جدا بعنوان «ورود»:
«على مكتبي مشمّع أنيق تسكنه الورود .. بعض الوريقات داكنة، والأخرى فاتحة اللون. أسدد إليها نظراتي فتتفتّح الوردات عن طفلات يرقصن في فساتين واسعة قصيرة، وشعورهن تنعقد بفيونكات في ذيول أحصنة، وأطفال يرقصون بوجوه مبتسمة وخصلات ناعمة تبدو من تحت الطواقي الجميلة. يتوقف رقص الورود الطفلات والطفلات فجأة حين يلمحون وردة ضخمة تنشق عن سلطان الحواديت بوجهه الجهم وكرشه الضخم خلفه حاشيته. يأتي يبتلع كل الحلوى .. كل الضحكات .. كل نغم الموسيقى. تنغلق بعض الوردات وتتوارى بعيداً .. بينما يقف بعضهم [الصواب: بعضها] في صف واحد ووجههم للجدار»(3).
فهذا النص القصير يحتوي على مفارقة بين عالمين: عالم الطفل (أو عالم البراءة المُرتجاة)، المتمثل في: الورود ـ الطفلات ـ الأطفال ـ الرقص ـ الطواقي الجميلة ... إلخ، وعالم القهر (أو عالم الواقع) الذي يُعاني منه الكبار (ويُعاني منه الأطفال أيضاً) ويتمثل في سلطان الحواديت الذي يقتحم عالم النص بوجهه الجهم وكرشه الضخم وخلفه حاشيته، والذي يبتلع كل الحلوى .. وكل الضحكات .. كل نغم الموسيقى.
ثم تستدعي الكاتبة في النهاية صورة العقاب الذي يُعاني منها الأطفال في مراحل الدراسة المبكرة ـ وهي أن يقف الطفل ووجهه إلى الجدار ـ في صورة ترسم التعاسة، ولكنها في الوقت نفسه ليست صورة كابوسية مفزعة، فهي تترك مجالاً للأمل والسعادة أن يجيئا مرة ثانية، في قولها «تنغلق بعض الوردات وتتوارى بعيداً .. بينما يقف بعضهم في صف واحد ووجههم للجدار».
فهي قد جعلت بعض الوردات تنغلق، وبعضها يقف ووجهه الجدار.
وتستخدم المفردات الحديثة لتعبر عن حالتها كامرأةٍ، ومثقفةٍ، وإنسانٍ من العالم الثالث يُواجَه بالمثبطات أكثر مما يُواجَه بما يدعو إلى الفرح، تقول في قصة «بالألوان»: «حين أدرتُ تلفاز أحلامي جاء العرض باللونين الأبيض والأسود .. ظللتُ أتململ. فجأة اصطبغت الشاشة بلون واحد: الأسود فقط! .. كانت الأيدي تكبلني لمقعدي لأستمر حتى نهاية العرض الحزين»(4).
4- جمالية الزمان:
للزمن سطوته التي لا تُقاوم في نصوص القصة القصيرة جدا، وفي مقابل الرواية والقصة القصيرة اللتين تهتمان بجمالية المكان، فإن كاتب القصة القصيرة جدا يعتني بالزمان ويستخدمه لإبراز التغيرات في المكان والشخصيات؛ ويُمكننا أن نمثل لذلك بقصة ياسر علي «البوابة» معبراً عن لحظة خروج الأساتذة من مقار لجان التصحيح في الشهادات العامة (كالشهادتين الإعدادية والثانوية)، ويبدو أنه كتبها بعد أن أصبح هناك فصلان دراسيان في العام (في يناير، ويوليو). ونص هذه القصة:
ما أصعب يوم الحشر!
الساعة ركبها شيطان رجيم!
لا تُريد عقاربها الوقحة أن تقترب من الثانية والنصف!
الأجساد المتلاصقة اقتربت رائحتها من درجة العفونة.
عيون العشرات من الرجال المحترمين معلقة بالبوابة السمراء الضخمة التي تُشبه وحش الأساطير القديمة!
الشمس رغم حرارتها الرقيقة تلسع الرؤوس المكتظة بدرجات التصحيح.
المنظر من أعلى سيكون أروع سخرية!
خاصة في الطابق الرابع، حين يشب ابن الخامسة وقد هاله منظر الواقفين أمام البوابة!
أمه بجانبه، تمضغ متعتها بهؤلاء المعذبين .. وقد تركت شعرها لنسيم يناير يعبث به، ويداها تستقران على رأس الصغير!، ولسان حالها يقول: أرجو .. ألا تكون مثل هؤلاء!»(5).
الزمان يمثل كابوساً ضاغطاً على المصححين، واللحظات ثقيلة، تحول المكان إلى سجن.
وفي القصة ـ رغم اهتمامها بإبراز أثر الزمن في مطلع القصة ـ مفارقة تصويرية طرفها الأول هؤلاء المدرسون المأزومون الذين انتهت فترة تصحيحهم، ومع هذا فمازالت البوابة السوداء الضخمة مغلقة، وطرفها الثاني هذه الأم الشابة التي تقف بجوار طفلها الصغير، ابنِ الأعوامِ الخمسة، وترجو لـه حين يكبر ألا يُصبح مدرساً كهؤلاء المدرسين.
***
توقفنا عند أهم الملامح الفنية في بناء القصة القصيرة جدا، ومن استطلاع (100) مائة نص أثناء كتابة هذا البحث (ما بين مطبوعة في مجموعة، أو منشورة في الصحف أو على الإنترنت)، لاحظنا أن أكثر من ثلاثة أرباع هذه المجموعة تتناول الهموم السياسية والاجتماعية، ولهذا سنشير إلى بعض هذه الآفاق في وَجازة:
1- الطرح السياسي:
من الطبعي أن تطرح الكثير من نصوص القصص القصيرة جدا هموماً سياسية (وجدتُ أن حوالي 40 % من النصوص التي خضعت للدراسة تتناول أُفقاً سياسيا).
ومن هذه القصص قصة «فيلم أمريكي حار» لعدنان كنفاني، وهذا نصها:
« جاء مبحراً من شواطئ بعيدة..
كأنه فوجئ بكائنات بشرية ما زالت تعيش في الخيام، وتركب الحصان، وتلبس الجلود.
التقط (رشاشاً) من مجموعته المختارة. وحصد منهم بعدد الرصاصات..
عندما هبط الظلام، عاد هندي نجا من المجزرة يزحف على بطنه..
دخل إلى خيمته المحّتلة، وجد الرجل الأبيض ينام عارياً على فراشه..
استل سكينه بهدوء، وحّز رقبته، ثم سلخ فروة رأسه..
صرخ العالم المتحّضر:
ـ إرهابي.. » (6).
قد يجيء الطرح السياسي مباشراً كما في القصة السابقة، التي تتناول قضية الإرهاب كما يراها المحتلون العابثون بالأوطان الصغيرة، بينما ما تفعله هذه الأوطان المحتلة المستضعفة، هو مقاومة لإرهاب المحتلين، فالمحتل والمستعمِر هو «الإرهابي».
وقد يجيء الطرحُ السياسي من خلال لغة هامسة تُدين أحزاب التسلط، التي لا تقيم وزنا للإنسان واحتياجاته. ونجد هذا في قصة "انتظار امرأة" لزكريا تامر، حيث يُطلعنا على مأساة إنسان ولد دون رأس، فعاش سعيداً!!، ويتمنى هذا الشخص أن ينتج شعباً من السعداء بلا رؤوس!!
"ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمه وشهق الطبيب مذعوراً، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل، فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكف فارس المواز عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعاً جديداً من البشر آملاً ألا يطول انتظاره" (7).
وقد يتناول الطرحُ السياسي قضية آنيةً يتفق عليها الجميع، مثل قضية المقاومة في فلسطين المحتلة، وقد عبرت عن ذلك عشرات النماذج لعدنان كنفاني وطلعت سقيرق، لكننا نتوقف أمام نص لوائل وجدي بعنوان «طفل» هذا نصها:
« ـ تأخرت كثيراً يا وليد.
ـ كنتُ أرمي الصهاينة بحجر.
ـ أنت صغير.
ـ لقد وُلدتُ رجلاًً.
**
لمح جنود الجيش الصهيوني بالقرب من ساحة المسجد الأقصى. اختبأ وراء شجيرة، وأخرج من بنطاله النبلة .. تخيّر حجراً .. وجذب الإستيك ضارباً رأس أحدهم.
حاول أن يكتم ضحكته .. ترامى إلى أسماعهم صوته .. صوّبوا الرصاص تجاه تلك الشجيرة .. سقطت أوراقُها على بقايا جسده الصغير الممزق»(
.
وتُحاول القصص ذات الاتجاه السياسي أن تقدم رؤاها السياسية في همس، بعيداً عن الصخب والضجيج، الذي يميز المقالة ـ أو الخاطرة ـ السياسية، ومنها قصة جبير المليحان «النجمة»، وهذا نصها:
« في ليل بهيم، افترشا بساطهما، خلف السيارة، على شاطئ بحر الدمام، تقابلا .. مدّ يده ضاغطاً كفها الوديع: طارت عيناها في السماء حمامتين، بعيداً حيث تتلألأ نجمة بهية زرقاء عنيدة. أشار إلى النجمة و قال:
- .. مثل قلبي!
تدارك، و هي تخفظ بصرها:
- .. أنت نجمة .. نجمتي !
مرحا طويلاً - بعينيهما - و يديهما ، على الشاطئ . مدّ قدميه ليرتاح ، و مدّت قدميها .. وخلعت الحذاء .. حدّق في الحذاء : كانت تستقر في طرف لسانه الداخلي نجمة سداسية بلون الذهب . اسود وجهه كالليل ، رفع رأسه و صرخ في وجه الليل:
- من أين هذا ؟!
- من السوق من .. هنا !! ، وأشارت حيث تهجع الدمام .
- ولكن ..
لم يستطع أن يكمل: وضع بساطه في السيارة ، و عاد صارخاً : - و بكل قوته - رمى الحذاء إلى أقصى البحر ناحية الضفة الأخرى!
عادا إلى بيتهما بصمت ، و الدموع تتساقط في حجر المرأة كحمام ميت!» »(9).
إن وجود النجمة السداسية (رمز إسرائيل) أفسد على الزوجين لحظاتهما، كما أن في القصة إشارة إلى التسلل الإسرائيلي إلى المجتمع العربي والأسواق العربية.
وقد يكون الطرحُ السياسيُّ المُباشر في بعض القصص التي تكتب أثناء أزمة، يكون طرحاً ساخناً، يُقلل من العناصر الفنية للقص، ويجعلها قريبةً من المقالةِ القصيرةِ أو الخاطرةِ، ومن ذلك قصة «المسدس» لمنيرة الأزيمع، التي نشرتها عقب اقتحام الأمريكيين بغداد:
«إنه هنا في غرفة المعيشة .. وتحت الوسادة وفي درج الطاولة التي أقعد أمامها كل مساء….. وهو بين جلدي وملابسي .. جهة قلبي هنا. أتحسسه بجنون عندما أفتقده .. وحينما أجده، وأضع يدي عليه .. أشعر بأنه يحس بدفء يدي عندما تربت عليه .. يعرف كثيرا عن مدى حاجتي إليه .. ويعرف كم هو ضروري الآن . لكن لا أعرف كيف أستخدمه جيدا... ولم أتدرب على ذلك. ثم عندما تنتهي طلقاته.. من أين آتي بأخرى؟؟ وكم صندوقا سأحتاج ؟؟ وإلى من سأوجه فوهته فهم كثيرون ويظهرون كل يوم .. تتشقق عنهم الأرض . هاهم ألان يتقافزون في كل جهة من هنا .. في حين أن الناس هنا يتحدثون عن سلام بصناعة غربية. لا أستطيع الثقة بأحد أبدا سوى بمسدسي .بصوته فهو الحقيقة الوحيدة حتى الآن …»(10).
وقد يتخذ من الرمز (أو الإشارة لفكرة يراها أو رؤية يطرحها فنيا على القراء) أداةً لقصته، وهو ما فعله ثائر دوري في قصته «انتخابات بلدية» حيث يرى موات الحركة السياسية العربية، وينتقد القدرة المحدودة لأعضاء المجالس البلدية على الفعل أو التأثير في مجتمعاتهم، ومن ثم فهو يشبه دخول المرشحين هذه الانتخابات بالموت.
تقول القصة:
« فجأة لمحت صورته بطرف عيني ملصقة على الجدار. فتوقفت على الفور أمام الصورة و قرأت الاسم ( أبو سليم العيتاني الملقب بالكخ ). ضربت كفاً بكف، وقلت لرفيقي:
- لا حول و لا قوة إلا بالله. رحمة الله عليه. البارحة فقط شاهدته، لقد توفي الرجل. مات الكخ. يجب أن نذهب لنعزي أولاده به.
نظر صديقي نحوي بدهشة شديدة، و قال:
- هذه ليست ورقة نعوة. بل هذا ملصق انتخابي. الرجل لم يمت بل رشح نفسه إلى الانتخابات البلدية.
ضربت كفاً بكف من جديد و أنا أتمتم:
- لا حول و لا قوة إلا بالله.»(11).
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) د. علي عشري زايد: عن بناء القصيدة العربية الحديثة، ط2، مكتبة دار العلوم، القاهرة 1979م، ص137 ، 138.
(2) أحمد جاسم الحسين: سوء تشخيص، موقع «القصة العربية»، في 17/1/2003م.
(3) د. هيام عبد الهادي صالح: وللجبل أغان أخرى، ص95.
(4) السابق، ص80.
(5) ياسر علي: عندما يموت الحب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الزقازيق 2000م، ص59.
(6) عدنان كنفاني: فيلم أمريكي حار، موقع القصة العربية» على الإنترنت، في في 31/8/2002م.
(7) زكريا تامر: الحصرم، ص155.
(
وائل وجدي: الحنين، سلسلة «أصوات معاصرة»، العدد (94)، دار الإسلام للطباعة، المنصورة 2002م، ص35.
(9) جبير المليحان: نجمة، منتدى القصة العربية، في 10/10/2003م.
(10) منيرة الأزيمع: المسدس، موقع القصة العربية، في 20/4/2003م.
(11) ثائر دوري: انتخابات بلدية، موقع «القصة العربية» على الإنترنت، في 10/8/2003م
***
(يتبع)