بل إن التضحية فى الإسلام ليست فرضا بل سنة، وهى تضحية فردية لا عن الأمة كلها مثلما هى فى اليهودية. ذلك أن المسلمين لم يعبدوا العجل لا فى غياب رسولهم ولا فى حضوره كما فعل اليهود عند مغيب موسى عليه السلام فى لقائه بربه فوق الجبل لتلقى الألواح، إذ يقول العهد القديم إن هارون صنع لهم أثناء ذلك عجلا ذهبيا عبدوه ورقصوا حوله وهم عرايا، مرتدِّين بذلك إلى الوثنية.
وفوق ذلك فتوقيت الشعيرة الإسلامية توقيت قمرى لا شمسى كما هو الوضع لدى اليهود، ولا يرتبط عندنا بتلقى نبينا وحيا خاصا ولا بالخروج من مكة، ولا علاقة له بموسى أو بالتوراة أو باليهود وخروجهم من مصر، بل بتاريخ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبشعيرة الحج، وهو ما يسبق موسى وخروج بنى إسرائيل من مصر بأزمان وأزمان. ثم إن الأضحية فى الإسلام هى للأكل والصدقة والإهداء، وليست لمجرد التضحية كما هو الحال فى اليهودية. والذى يذبحها هو أى شخص يستطيع ذلك، بخلاف الامر فى ديانة يهود، فهو الكاهن حسبما رأينا.
كما يسبق الذبحَ لدينا ويعقبه أمورٌ أخرى لا صلة بينها وبين يوم كيبور وما يفعله اليهود فيه. إنهما أمران مختلفان تمام الاختلاف كما قلت.
وحين يبلغ الكاتب سياق الحديث عن الأخلاق فى الإسلام نراه يزعم دون أدنى دليل، بل ضد كل دليل، أنها أقل من نظيرتها فى اليهودية، بَلْهَ النصرانية، التى تتفوق على الإسلام فى هذا المجال تفوقا أكبر حسب دعواه. وكيف تكون أخلاق اليهودية أفضل منها فى الإسلام، واليهود إنما ينظرون إلى غيرهم من البشر على أنهم أحط من الحيوان، ويفرقون فى المعاملة بين اليهودى وغير اليهودى كما هومعروف، على حين أن أخلاق الإسلام هى أخلاق إنسانية الطابع، ومن ثم لا تجعل للاعتبار الدينى محلا فى تأدية الحقوق إلى أصحابها أو عمل الخير للآخرين؟
ثم إن الإسلام لا يكتفى بالكلام المنمق الجميل الذى لا يؤكِّل عيشا، بل يضع له الإطار التطبيقى كما هو الحال مثلا فى الزكاة والصدقات غير مكتف بالحديث عن ضرورة رحمة الفقير والمسكين، بل يُتْبِعه بتنظيم هذه الدعوة وجعل تنفيذها فريضة دينية يحاسَب الشخص على تأديتها أو إهمالها. وأين هذا فى اليهودية أو النصرانية؟ وعلى أية حال فإن أمم الغرب ماضية منذ قرون فى الاعتداء على المسلمين وتقتيلهم وتدمير بلادهم وحضارتهم، وفى القرن المنصرم أنشأوا لليهود دولة فى قلب العالم العربى.
نعم لليهود، الذين يتهمونهم بقتل المسيح، لا لشىء سوى نكاية المسلمين وإفساد حياتهم حاضرا ومستقبلا. إى نعم لليهود، الذين يقول العهد الجديد، وهو الكتاب المقدس لدى صاحب المقال الذى بين أيدينا، عن شيوخهم وكهنتهم وعما صنعوه مع المسيح عليه السلام: "وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ" (متى/ 26/ 59).
أما إذا كان يريد الإيماء إلى موعظة الجبل وما فيها من كلام مثالى مغرق فى المثالية فإننا نسأله: أين يا ترى يمكننا أن نعثر على ما يجعلنا نصدّق قدرة أى إنسان أو أية جماعة على تطبيق ما جاء فى تلك الموعظة؟ أما أخلاق الإسلام فإنها تجمع بين المثالية وشىء من الواقعية، ولهذا كانت أقمن أن ينفذها أتباعها بسهولة لا تتوفر لغيرهم.
ثم انظر الآن إلى الكاتب كيف يلوى الحقائق بدم بارد فيذكر، من بين المحرمات فى الإسلام، شهادة الزور ضد المسلم. ومعنى هذا بطبيعة الحال أن المسلم يجوز له، إن لم يكن واجبا عليه، أن يشهد بالزور ضد غير المسلم. أرأيت أيها القارئ كيف يتعمد الكاتب تشويه الإسلام بالباطل؟
ولكى يرى القارئ بنفسه مدى التدليس الذى يمارسه الكاتب أسوق له بعض الآيات القرآنية التى تتعلق بهذا الموضوع: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء/ 135)، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة/
.
هذا عن وجوب تأدية الشهادة على وجهها الصحيح دون أدنى اعتبار لأى شىء آخر من غنى أو فقر أو قرابة أو غرابة أو دين حتى لو كانت بيننا وبين من نشهد عليه شنآن، أى بغضاء مستحكمة. إن الكاتب ليعلم علم اليقين أن ما قاله عن الإسلام لا وجود له فى الإسلام، بل فى اليهودية، إذ نقرأ فى سفر "الخروج" (20/ 16): "لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ". ومعنى ذلك أن شهادة الزور على الغريب وغير اليهودى أمر جائز، إن لم تكن أمرا واجبا. ومثله الإقراض الربوى، إذ يحرم على اليهودى أن يُقْرِض يهوديا بربا، بخلافه مع الأجنبى، فهو عندئذ حلال تماما.
ترى هل هناك شنآن كالذى كان بين اليهود والمسلمين، والذى طَوَّعَ ليهود أن يؤلبوا الوثنيين على أصحاب التوحيد ويكذبوا على الله وعلى الحق وعلى الشرف والصدق والأمانة فيؤكدوا لهم أن وثنيتهم خير من توحيد الإسلام؟ ومع ذلك فها هو ذا القرآن الكريم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الآيات التالية مدافعا عن يهودى اتهمه بعض من كان ينتسب إلى الإسلام بأنه الفاعل فى قضية تختص بسرقة سلاح، على حين كان السارق هو ذلك المتَّهِم نفسه: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)" (النساء).
وأرجو أن يتملى القارئ جيدا تلك اللهجة النارية التى يصطنعها النص والتى قلما نجد لناريتها شبيها فى مثل ذلك السياق من القرآن.
لكن هذا فى الواقع ليس غريبا أبدا على دين يوصى أتباعه بما يوصيهم به الإسلام تجاه عدوهم، فيقول لهم: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)" (الممتحنة)،
ويحذرهم من العدوان على أى إنسان أو أية جماعة، وإن كان يسمح لهم بالرد على العدوان بمثله: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة/ 190)"، مع إيثار التسامح على الانتقام رغم مشروعيته ما دامت الظروف تسمح بالتسامح دون أن يستتبع ذلك ضررا أشد: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43)" (الشورى)، "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" (النحل/ 126).
هذا ما يقوله القرآن. والآن إلى هذا النص من رسالة بولس إلى أهل رومية، وفيه أن الكذب مشروع ما دام يؤدى إلى تمجيد الله: "3فَمَاذَا إِنْ كَانَ قَوْمٌ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ؟ أَفَلَعَلَّ عَدَمَ أَمَانَتِهِمْ يُبْطِلُ أَمَانَةَ اللهِ؟ 4حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ».5وَلكِنْ إِنْ كَانَ إِثْمُنَا يُبَيِّنُ بِرَّ اللهِ، فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ اللهَ الَّذِي يَجْلِبُ الْغَضَبَ ظَالِمٌ؟ أَتَكَلَّمُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ. 6حَاشَا! فَكَيْفَ يَدِينُ اللهُ الْعَالَمَ إِذْ ذَاكَ؟ 7فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟".
وهذا يكفى فى الرد على كاتبنا الهجّام الذى يلصق بالإسلام ما ليس فيه متصورا أن بمستطاعه الحديث عن الإسلام من طرف مناخيره دون أن يعقّب أحد على كذبه.
ويستمر الكاتب فى تزييفه فيزعم أنه، من بين الكفر والردة والزنا وشرب الخمر والاستقسام بالأزلام، لا يوجد عقاب فى الإسلام إلا للكفر والردة، أما الخطايا الباقية فيُسْمَح فيها بوجه عام أن يذهب مقترفها لحال سبيله دون عقاب، اللهم إلا إذا مست مصلحةَ المجتمع أو اصطدمت بالنظام السياسى بشكل خطير، وكأنه لا عقوبة على شارب الخمر ولا على الزانى ولا على شاهد الزور.
لو أنه قال إن بعض هذه الخطايا لا عقاب معين لها مثل شهادة الزور لم يكن على كلامه غبار، وإن لم يَعْنِ هذا أنه لا توجد فعلا أية عقوبة لمرتكب شهادة الزور، بل كل ما يعنيه هو أنه لا يوجد حد مقرر لمثل تلك السيئة، ومن ثم يُتْرَك أمرها إلى رجال القانون يؤاخذون مجترحها بالعقوبة التى يَرَوْنَها ناجعة رادعة، وهو ما يسمى فى الفقه الإسلامى بــ"التعزير"، ذلك الباب الشرعى للعقوبة التى لم يحدَّد مقدارها سلفا. أما شرب الخمر ففيه الجلد، وأما الزنا فالجلد عقوبة غير المحصن، وثم خلاف حول عقوبة المحصن: أهى الـجَلْد كما فى غير المحصن، أم هى الرَّجْم كما يقول جمهور الفقهاء؟
ومن تزييفات الكاتب دعواه أنه فى حالة ارتكاب أحد الزوجين للفاحشة فإن شهادة الرجل على زوجته تُقْبَل للتو واللحظة ودون نقاش، على عكس شهادتها عليه، فإنها لا تُقْبَل بحال. وهو كلام لا صدق فيه على الإطلاق، إذ من المعروف أن فى الفقه الإسلامى بابا لما يسمَّى بـ"اللِّعَان"، وهو أن يتهم أحد الزوجين الآخر بالفاحشة، فعندئذ يجب عليه أن يكرر شهادته أربع مرات أمام القاضى حتى يكون لشهادته قبول وتتم معاقبة الطرف المتَّهَم، ولكن بشرط ألا يردّ فيشهد أربع مرات بأن متَّهِمه كاذب فيما قاله عنه. وعلى هذا فلا تمييز هنا بين زوج وزوجة، بل مساواة تامة.
كذلك فإن قوله إن الأخذ بالثأر من الأمور المسموحة فى الإسلام هو من المزاعم الفارغة التى لا تستند إلى أى أساس خارج دعوى الكاتب السخيفة، إذ على رأس الإصلاحات التى أتى بها الرسول الكريم إلغاؤه الثأر، وكان شائعا بين العرب يفتك بهم ويحيل حياتهم إلى سلسلة لا تنتهى من القتل والقتل المضاد، ومن ثم أصبح واجبا على أولياء القتيل عندئذ تفويض الأمر إلى القضاء يأخذ لهم حقهم. وهذا من المتعالم المشهور الذى لا يحتاج إلى سوق الدليل عليه.
ومن أكاذيب الكاتب أيضا زعمه أن الإسلام السياسى يقوم على الاستبداد فى الداخل، والعدوان فى الخارج. وهذا كلامٌ سخيفٌ سُخْفَ عقل قائله، إذ لا وجود للشورى فى أى كتاب دينى كما هو الحال فى القرآن الكريم، الذى تكررت الإشادة بها فيه أكثر من مرة. وفى سورة "الشورى" نجد القرآن قد جعلها من سمات المؤمنين المخلصين.
أى أنها ليست شأنا من شؤون السياسة فحسب، بل هى أولا وقبل كل شىء من صميم الإيمان، ومن ثم تُُكْسِب صاحبها رضا الله سبحانه وتعالى: " فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)" (الشورى).
ولنلاحظ أن السورة التى وردت فيها الآية تُسَمَّى بـ"الشورى"، وهذه دلالة لا تخطئها العين على المكانة التى تحتلها الشورى فى الإسلام. أما آية "آل عمران" فموجهة إلى النبى نفسه صلى الله عليه وسلم بما يفيد أن الشورى أكبر من أى شىء، وأن الكل ينبغى أن يخضع لها وينزل على مطالبها: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" ( آل عمران/ 159).
ومن العجيب أن تكون هذه الآية قد نزلت بعد أن أصاخ النبى إلى اقتراحٍ لطائفة من المسلمين فى غزوة أحد يختلف عما كان هو يزمع تنفيذه، وكانت النتيجة هزيمة المسلمين فى تلك الغزوة. ولقد كانت هذه فرصة لأى مستبد كى يقرّع مخالفيه وينصبّ عليهم عسفا وترويعا واستبدادا، إلا أن القرآن كانت له كلمة أخرى، إذ نراه رغم كل ما حدث قد أوجب على النبى المزيد من الشورى، مع اعتماد اللين والرحمة وسيلة للتعامل مع مستشاريه ورعيته بدلا مما ينتهجه الحكام الآخرون من الفظاظة وغلظة القلب. فهل بعد هذا كله موضع لتساخف هذا المتساخف؟
وبالنسبة للسياسة الإسلامية الخارجية التى يَسِمُها بالعدوانية نجده يؤكد أن المسلمين فى العصور الوسطى والحديثة قد اضطهدوا اليهود والنصارى اضطهادا شديدا.
ولا ريب أن هذا تعبير عن فقدان العقل، وإلا فلماذا لم يذكر لنا الكاتب وقائع محددة تدل على صحة ما يقول؟ أليس من العجيب أن يقلب الرجل الحقائق على أم رأسها فيزعم أن المسلمين قد اضطهدوا اليهود والنصارى، وبالذات فى العصر الحديث، ذلك العصر الذى يتناوش المسلمين فيه الاضطهادُ والاكتساحُ والاستنزافُ والتدميرُ الصليبهيونى من كل جانب؟
أليس من العجيب أن يتجاهل الرجل حملات الصليبيين والغزو المغولى، ثم الغزو الاستعمارى الحديث بدءا من الحملة الفرنسية على مصر، واحتلال فرنسا للجزائر ثم المغرب وتونس بعد ذلك، واحتلال بريطانيا لمصر فى ثمانينات القرن التاسع عشر ثم للسودان بعد ذلك، واحتلال إيطاليا لليبيا فى العقد الثانى من القرن العشرين، واغتصاب اليهود لفلسطين بتخطيط الغرب الصليبى ومعاضدته لهم بالمال والسلاح والدعاية والمواقف والمؤامرات السياسية، ويروح يهيم فى وادى الكذب والتضليل محاولا لىّ الحقائق التاريخية التى لا تقبل الالتواء؟
* كاتب ومفكر مصري – الاستاذ بجامعة عين شمس
Ibrahim_awad9@yahoo.com http://awad.phpnet.us/ http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9.