والآن نترك القارئ مع حديث لص الصدقة حسبما ورد فى البخارى: "قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر الحديث فقال: إذا أويتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي. لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقك، وهو كذوب. ذاك شيطان".
وهناك حديث آخر أورده الموسوى (ص62) للتشنيع أيضا على أبى هريرة، هذا نصه: "تحاجَّت الجنة والنار فقالت النار: أُوثِرْتُ بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطتهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي. ولكل واحدة منهما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قَطّ، قَطّ. فهناك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض... الحديث". والكلام فيه على المجاز فيما أفهم ويفهم كل عاقل. وكنا وما زلنا نسمع هذا الحديث وأمثاله فلا تذهب بنا فُهُومنا إلى أنْ سيكون ثَمَّ حِجَاج فعلا بين الجنة والنار. أما قول المؤلف (ص63) تعقيبا على ذلك: "بأي لسان تتحاج النار والجنة؟ وبأي حواسهما أدركتا ما أدركتاه وعرفتا مَنْ دخلهما؟ وأي فضل للمتجبرين والمتكبرين لتفخر بهم النار، وهم يومئذ في أسفل سافلين؟" فالرد عليه أنهما ستتحدثان بنفس اللسان الذى سوف تجيب به جهنم ربها حين يسألها: "هل امتلأتِ؟"، فتقول: "هل من مزيد؟"، وبنفس اللسان الذى سوف تردّ به الجلود على أصحابها من أهل الجحيم يوم القيامة حين تشهد عليهم فيستغربون ذلك منها ويسألونها: "لم شهدتهم علينا؟"، فترد قائلة: "أنطقَنا الله الذى أنطق كل شىء". كذلك أسند القرآن للنار شهيقا، فكيف لا نسند لها الكلام والمحاججة؟ وفى كتاب الله نراها أيضا تتميز من الغيظ، فكيف لا نقول إنها تحاجّ الجنة، وتحاجّها الجنة؟ يقول تعالى فى كتابه الكريم: "وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سمعوا لها شهيقا وهى تفور* تكاد تَمَيَّزُ من الغيظ". والموسوى هنا بالخيار: إن شاء قال بالمجاز، وإن شاء قال بالمعنى الحرفى. لكنْ عليه أن يعامل الآيات القرآنية والحديث معاملة واحدة، وإلا فليسكت.
ومثل ذلك أيضا الحديث التالى: "أخرج الشيخان من طريق ابن شهاب عن أبي عبد الله الاغر وأبي سلمة ابن عبد الرحمان عن أبي هريرة مرفوعا قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى الثلث الاخير، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟"، والكلام فيه على المجاز كما هو واضح لكل ذى بصيرة. وقد سبق أن أوردته فى كتابى: "منكرو المجاز فى القرآن والأسس الفكرية التى يستندون إليها" دليلا على أننا لا يمكننا الاستغناء عن المجاز لسببين على الأقل: الأول أن المجاز عنصر أصيل فى اللغات لا يمكنها أن تَعْرَى عنه أبدا. والثانى أننا لو لم نقل هنا بالمجاز لكان معنى هذا أن الله ينزل ويصعد، وهذا مستحيل عليه سبحانه، فهو خالق الزمان والمكان ولا يمكن أيا منهما أن يشتمل عليه، وإلا كان عز وجل محدودا له أول وآخر، وهو ما لا يناسبه سبحانه وتعالى البتة. علاوة على أننا لو قلنا بالمعنى الحرفى لترتب عليه أنه سبحانه لا يصعد أبدا من السماء الدنيا لأن الثلث الاخير من الليل لا ينتهى لحظةً من الأرض، إذ ما إن ينتهى من موضع على الكرة الأرضية حتى يبدأ فى الموضع الذى يليه... وهكذا دواليك إلى الأبد، وهو ما لا يقول به أحد من المسلمين، لأنه لا يليق بطبيعة الألوهية. والمعنى لفت أنظار المؤمنين إلى أن للعبادة فى جوف الليل وسكونه والتبكير لصلاة الفجر وضعا متميزا، وأن الاستغفار فى ذلك الوقت أحرى أن يكون خارجا من القلب وأخلق أن يستجاب له. وهذه هى طبيعة اللغة لا انفكاك لها من ذلك، فضلا عن أن النصوص الدينية لا تتوجه إلى الفلاسفة وحدهم بل إلى جميع طوائف البشر من عوامّ ومتعلمين وعلماءَ وفلاسفة. ثم إن التعبير على هذا النحو أقمن أن يكون أقوى تأثيرا ونفوذا إلى القلب، وإلا فلِمَ يقول القرآن الكريم: "وجاء ربك والملَك صَفًّا صَفًّا" مثلا؟ فهل الله يذهب ويجىء؟ أو لماذا يقول سبحانه وتعالى: "ولِِتُصْنَع على عينى"؟ ترى هل لله عين؟ أو لماذا يقول جل جلاله عن المؤمنين يوم الحديبية حين مدوا أيديهم يعاهدون النبى على نصرته وطاعته والوقوف معه مهما تكن الظروف: "يد الله فوق أيديهم"؟ فهل له سبحانه يد؟ أو لماذا يقول عن نفسه جل جلاله: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"؟ فهل له جَلَّتْ قدرته وَجْه؟ على الأقل: ليس له عين ويد ووجه على النحو الذى نعرف وتعرف لغاتنا الوجه واليد والعين.
ويقول الموسوى تحت عنوان "نقض سليمان حكم أبيه داود": "أخرج الشيخان بالإسناد إلى أبي هريرة مرفوعا قال: كانت امرأتان معهما ابنهاهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما دهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليه السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل، يرحمك الله. هو ابنها! فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة: والله إِنْ سمعتُ بـ"السكين" إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا "المدية". في هذا الحديث نظر من وجوه: أحدها أن داود عليه السلام خليفة الله في أرضه، ونبيه المرسل إلى عباده، وقد أمره الله أن يحكم بين الناس بالحق، فقال عز من قائل: "يا داود، إنا جعلناك خليفة في الارض، فاحكم بين الناس بالحق". وقد أثنى عليه في الذكر الحكيم والفرقان العظيم فقال عز من قائل: "واذكر عبدنا داود ذا الأَيْد، إنه أَوّاب* إنا سخَّرنا الجبال معه يسبِّحْنَ بالعَشِيّ والإشراق* والطير محشورة، كُلٌّ له أَوّاب* وشَدَدْنا مُلْكَه وآتيناه الحكمة وفَصْل الخطاب"... إلى أن قال عز سلطانه: "وإن له عندنا لزُلْفَى وحُسْن مآب". وقال عز وعلا: "ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض، وآتينا داود زَبُورا". فداود ممن فضله الله بزبوره، فهو معصوم من الخطأ، ولا سيما في القضاء والحكم بما أنزل الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون". وولده سليمان وارث علمه وحكمه، وهو نبي معصوم أيضا، فكيف ينقض حكم أبيه، وهو أعرف الناس بعصمته؟ ولو أن حاكما في هذه الأيام من قضاة الشرع جامعا لشرائط الحكومة الشرعية حكم بين اثنين ترافعا إليه لوجب على سائر حكام الشرع اعتبار حكمه بدون توقف إلا مع العلم بخطئه. والخطأ هنا مأمون لوجوب عصمة الانبياء، فلا يجوز على سليمان، وهو من أنبياء الله أن ينقض حكم أبيه، الذي ارتضاه الله رسولا لعباده وحاكما بينهم لأن نقضه رد على الله تعالى وسوء أدب مع أبيه بل عقوق له. ثانيها أن هذا الحديث صريح بتناقض الحكمين الصادرين من هذين النبيين، وذلك مما يوجب القطع بخطأ أحدهما لو كان الحديث صحيحا. والخطأ ممتنع على الانبياء، ولا سيما في مقام الحكم بما أنزل الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون". ثالثها: ظاهر هذا الحديث أن داود عليه السلام حكم بالولد للكبرى بدون بينة ولا مستند غير أنها كبرى. وهذا لا يصدر إلا من جاهل بالموازين الشرعية بعيد عن قوانين المحاكمات، تعالى الله وتنزهت أنبياؤه عن ذلك. رابعا أن هذا الحديث صريح في أن سليمان إنما حكم به للصغرى بمجرد إشفاقها عليه من الشق بالسكين، وهذا بمجرده لا يكون ميزانا لحكمه، ولا سيما بعد إقرارها به للكبرى، وبعد حكم أبيه بذلك. خامسها: لا ينقضى والله عجبي ممن يسعه تصديق أبي هريرة في قوله: والله إن سمعت بـ"السكين" إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا "المدية". وَيْ! كأن السكين أكثر دورانا في كلام العرب من المدية بكثير! وما أظن أحدا منهم يجهل معنى السكين بخلاف المدية، فإن أكثر العامة لا يعرفونها. وَيْ! كأن أبا هريرة لم يقرأ ولم يسمع قوله تعالى في سورة "يوسف"، وهي مكية: "وآتت كلَّ واحدة منهن سكينا". وكأنه لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: من جُعِل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" (ص64- 66).
وواضح أن المؤلف يخلط هنا بين العصمة الخلقية والعقيدية والتبليغية التى لا يمكن أن تنفك عن الأنبياء وبين العصمة فى أمور الحياة التى تحتاج إلى خبرة والتى لا يحوزها كلها على وجهها الصحيح فى جميع الأحوال أحد من البشر. ألم يحدث أن اختار النبى فى غزوة بدر موضعا يتمركز فيه الجيش الإسلامى، ثم نبهه بعض الصحابة إلى أن ثَمّ منزلا أفضل منه من الناحية الحربية، فنزل النبى على الرأى الجديد دون أى حرج أو تأفف؟ ألم يأتنا عنه صلى الله عليه وسلم فى حادثة تأبير النحل: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"؟ ألم يقل النبى ذاته عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحكمه الشرعى: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع. فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"؟ فماذا يريد الموسوى أكثر من هذا كى يقتنع أن حكم الأنبياء يمكن أن يتأثر بالـمُعْطَيَات التى تُبْسَط أمامهم؟ ألم ينزل القرآن العظيم بمعاتبة النبى عليه الصلاة السلام فى بعض المواقف؟ ألم يقل القرآن عن داود وسليمان: "وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نَفَشَتْ فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين* ففهّمناها سليمان، وكُلاًّ آتينا حكما وعلما..."؟ إن هاتين الآيتين لتذكراننى بالحديث الذى يقول فيه سيدنا رسول الله: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍّ خير". وأحسب أن فى تلك الإيماءة ما يكفى لتوضيح ما أريد أن أقول. أما أن سليمان قد قضى بالطفل للصغيرة فلقد كان واضحا تمام الوضوح أنه ابنها بعدما رفضت شقه نصفين وأعلنت أنها تنزل عنه للكبرى، وإلا فلا عقل عند أحد ولا فهم إن فاتنا هذا الأمر فلم نر فيه ما رآه نبى الله سليمان. وعلى كل فإن الكبرى قد خرست بعدما أصدر سليمان عليه السلام حكمه ذاك ولم تفتح فمها بكلمة اعتراض أو مراجعة، وهو ما يدل دلالة قطعية على أن الولد إنما هو ابن الصغرى.