ومما قاله الموسوى حقدا منه على الصحابى الجليل (ص19): "وكُنِّىَ: "أبا هريرة" بهرة صغيرة كان مغرما بها. ولعل من غرامه بها حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها فلم تُطْعِمها ولم تَدَعْها تأكل من خَشَاش الأرض". وهذا سخف وتنطع لا يؤبه بهما، إذ السنة النبوية مفعمة بالدعوة إلى الرفق بالحيوان، الحيوان كله: هِرَرًا وغير هِرَر: فهناك حديث عن كلبٍ برَّح به العطش فسقاه رجل، فغفر الله له وشكر له برحمته الكلب المسكين. و"عن أبي عمرو الشيباني قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فأصاب بعضُهم فرخَ عصفور، فجعل العصفور يقع على رحالهم، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يردوا عليه فرخه، ثم قال: إن الله أرحم بعباده من هذا العصفور بفرخه". وقال عليه السلام: "من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة". وكان له صلى الله عليه وسلم هرة فكان يصغى لها الإناء حتى تشرب. وكان لأنس بن مالك أخ صغير اسمه أبو عُمَيْر، وكان له بلبل يلعب به، ثم مات البلبل، فكان كلما زارهم الرسول فى بيتهم داعبه للتسرية عنه قائلا: يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَيْر؟ كذلك هناك حديث يتحدث فيه النبى عليه السلام عن أرواح الشهداء فى الجنة وكيف أنها ستكون فى حواصل طيرٍ خُضْرٍ: "إن أرواح شهداء المسلمين في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تغدو إلى رياض الجنة، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش". وهناك أيضا ذلك الحديث الشريف الذى يوصى المسلم برَكوبته فلا يرهقها أو يحمّلها فوق طاقتها متصورا أن ذلك أحرى أن يبلغ به غايته سريعا، فلا هو يبلغ غايته، ولا هو يُبْقِى على الرَّكوبة. ثم هناك ذلك الحديث الآخر الذى سمع فيه النبى امرأة تلعن رَكوبتها فنهاها صلى الله عليه وسلم عن لعن الحيوان. فهل كان أبو هريرة وراء ذلك كله؟
الواقع أنه لو كان أبو هريرة هو مخترع حديث الهرة لقد بلغ أبو هريرة بهذا الاختراع مرتقى نبيلا صعبا قلما يستطيع أحد من البشر الارتقاء إليه. لقد كتبت مثلا الصحافية والأنثروبولوجية الهولندية فرانسيسكا دى شاتل (Francesca De Chatel) مقالا عظيما كله إعجاب وانبهار بالرسول والإسلام جعلت عنوانه: "محمد، رائد الحفاظ على البيئة: Muhammad: A Pioneer of Environmentalism"، وكان مما سلطت الضوء عليه فى ذلك المقال دعوة الإسلام إلى الرفق بالحيوان. أفلا ينبغى أن يكون لدينا عقل ندرك به قيمة الدين الذى أكرمنا الله به كما أدركتها تلك الهولندية؟ أم لا بد أن نفسد كل شىء من أجل الزراية على أبى هريرة، رضى الله عنه رضى واسعا عريضا ولا رضى عمن يظن أنه يستطيع الإساءة إليه بهذه السخافات المتخلفة؟ ويجد القارئ هذا المقال بالإنجليزية مشفوعا بترجمتى إياه إلى العربية فى الفصل الأول من كتابى: "مختارات إنجليزية استشراقية عن الإسلام" (المنار للطباعة والنشر/ القاهرة/ 1430هـ- 2009م/ 7- 25).
ومن تنطع الموسوى أنه يحاج أبا هريرة هنا بما قال إن عائشة قد ردت به على ذلك الحديث تكذّب الصحابى الكريم. وهذا نص ما كتب: "وردّت عليه عائشة إذ بلغها حديثه هذا" (ص19). وإن لى لسؤالا هنا، إذ منذ متى تقيمون يا موسوى لما تقوله عائشة أو لعائشة ذاتها وزنا يا كارهى الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والصحابة أجمعين إلا نفرا قليلين، رضى الله عنها وأرضاها ولا رضى عمن يختلق عليها البهتانات ويبغضها ويبغض أباها؟ أليست عائشة هذه، رضى الله عنها وأرضاها ولا رضى عمن ينالون منها ومن سمعتها غير عابئين بمحية النبى لها ولا بعِرْضه صلى الله عليه وسلم، إذ عِرْضها هو عِرْضه، وعِرْضه هو عِرْضها، لكن بعض البشر لا يفقهون، وهم على أبصارهم وبصائرهم مطموسون، نعم أليست عائشة هذه هى التى تنهشون عرضها وتظنون أنكم تتقربون إلى الشيطان بنهشكم هذا؟ لا أقر الله عين من يقول فيها الكذب والبهتان وأرداه الله فى قعر الجحيم.
ولقد ورد ذلك الحديث لدى البخارى وابن ماجة والألبانى عن أبى هريرة مرة، وعن ابن عمر مرة، وعنهما كليهما مرة ثالثة، ولم يرد فيه أن عائشة قد اعترضت على شىء منه. أى أن أبا هريرة ليس هو وحده راوى هذا الحديث، كما أن عائشة لم تعترض على الحديث. ثم إنك يا موسوى قد قلت بعظمة لسانك إن النبى رآه وهو يضع الهرة فى كمه ويحنو عليها، فهل سمع أحد رسول الله ينهاه عن ذلك أو ينكر عليه أو حتى يسخر منه مجرد سخرية؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يداعبه بهذا ويتخذها فرصة ليدخل البهجة على قلب الشاب المسكين الواسع القلب الكبير الرحمة، أفتأتى أنت وتقلبها مذمّة سوداء، وتهتبلها سانحة لتمضغ سمعته بأسنان الحقد وأضراسه، وتحاول عبثا النيل من قدره بلسان الزيف والبهتان رضى الله عنه؟ فمن أنت حتى تسلك سلوكا يناقض ما صنعه النبى عليه السلام؟ هلا فِئْتَ إلى العقل والذوق واللياقة واتبعت سنة النبى الذى تؤمن به؟ أَوَلا بد أن يكون الإنسان قاسى القلب لا يعطف على حيوان أعجم ولا يلعب معه حتى يعجبك؟ عجبا لك يا أخى! دع الحقد على صحابة رسول الله ولا تتخذ من نفسك معقبا عليهم ومؤاخذا لهم. فمن أنت حتى تصنع ذلك، وليس لك مُدّ أحدهم ولا نَصِيفه؟
وفى صفحتى 26- 27 يكتب الموسوى "أن عمر بعثه (أى بعث أبا هريرة) واليا على البحرين سنة إحدى وعشرين. فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله وولى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة الآف زعم انه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة. وحسبك منها ما ذكره ابن عبد ربه المالكي "فيما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم من أوائل الجزء الاول من "عقده الفريد" إذ قال، وقد ذكر عمر: ثم دعا أبا هريرة فقال له: علمتَ أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار. قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا تلاحقت. قال: حسبتُ لك رزقك ومؤنتك، وهذا فضل، فأدِّه. قال: ليس ذلك. قال: بلى والله، وأُوجِع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: ائت بها. قال: أحتسبها عند الله. قال: ذلك لو أخذتَها من حلال وأديتها طائعا! أجئت من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك لا لله ولا للمسلمين؟ ما رجعت بك أمسية إلا لرعية الـحُمُر. قال ابن عبد ربه: وفي حديث أبي هريرة: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟ قال: فقلت: ما أنا عدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداك، وما سرقت مال الله. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف؟ قال: فقلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال: فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لامير المؤمنين... الحديث".
وأعتقد أن الأمر ناتج من اختلاف الفهم والاجتهاد بين عمر وأبى هريرة: فأبو هريرة يرى أن من حق الوالى التجارة والاشتغال بتنمية ثروته الشخصية ما دام ذلك من حلال، وعمر يريد من الولاة أن يتجردوا تمام التجرد لخدمة الرعية. ولا أظن أبدا أن أبا هريرة، حاشا لله، قد سرق شيئا من بيت المال كما يزعم الموسوى، وإلا أفكان عمر يكتفى بأخذ ما سرقه ثم يتركه يمضى لحال سبيله؟ ثم لو كان عمر يرى أنه سارق فعلا فلم عاد إليه يطلب منه أن يعمل له واليا مرة ثانية؟ ولو كان أبو هريرة سارقا فلم رفض تلك الولاية متعللا بأن عمر قد أساء إليه؟ وفوق هذا فقد كان عمر يصنع ذلك مع كل صحابى تولى له عملا. هذا هو الرد الصحيح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولننظر فى نهاية النص لنسمع تعقيب أبى هريرة على الأمر كله رغم شدته عليه، إذ قال: "فلما صليت الصبح استغفرتُ لامير المؤمنين". بالله عليكم يا أيها القراء، أهذا كلام يصدر من فم سارق؟ غفر الله لك يا أبا هريرة، وغَصَّتْ واختنقت بكراهيتك حلوقٌ وأفئدةٌ غير كريمة! وعلى أية حال لم ترد هذه الرواية فى كتب الأحاديث: لا فى الصحاح منها ولا فى الضعاف. إنما هى من كلام ابن عبد ربه فى "العقد الفريد"، وهو كتاب فى الأدب بالدرجة الأولى لا فى الحديث. كما أن الموسوى لم يجد ما يعضد به تلك الرواية إلا ما ورد فى كتاب "نهج البلاغة" (ص27)، الذى زيفت الشيعة كثيرا مما جاء فيه ونحلته ابن أبى طالب كرم الله وجهه ورضى عنه رضا عظيما كفاء ما خدم الإسلام والمسلمين واحترم إخوانه الصحابة الأطهار ولم يفتر عليهم الأكاذيب مثلما افترى عليهم ناس لا يرعوون، ثم يزعمون أنهم يحبونه ويدافعون عن حقه وحق ذريته.
أما الذى جاء فى كتب الحديث، وتحديدا فى كتاب"الأنوارالكاشفة" للمعلمى، فهو ما رواه محمد بن سيرين من "أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال أَيْ عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لستُ بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكنْ عدُوّ من عاداهما. فقال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغَلّة رقيقة، وأعطية تتابعت عليَّ. فنظروا فوجدوه كما قال. فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له، فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك: طلبه يوسف عليه السلام؟ فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة، وأخشى ثلاثا واثنتين. فقال عمر: فهلا قلت: خمسة؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، أو يُضْرَب ظهري ويُنْتَزَع مالي ويُشْتم عِرْضي". فليس ها هنا اتهام بالسرقة ولا ضرب ولا شىء من ذلك الكلام الذى يغرم به الموسوى وأمثاله ما دام يشوه صورة صحابى من صحابة رسول الله. كذلك يقول الحديث إن الصحابة قد فحصوا ما أحضره معه أبو هريرة من مال فوجدوه كما قال من أنها ثمرة عمله وأنه لم يأخذها من مال المسلمين، فضلا عن أن عمر قد عرض عليه الولاية ثانية كما سبق القول فرفض رضى الله عنه. فتَبًّا لكارهى أصحاب رسول الله الشامتين فيهم المسارعين لتصديق كل ما يلطخ سمعتهم دون تمحيص أو تحقيق.
ومما قاله الموسوى فى صحابينا الكريم (ص28): "أخلص أبو هريرة لآل أبي العاص وسائر بني أمية على عهد عثمان واتصل بمروان وتزلف إلى آل أبي معيط، فكان له بسبب ذلك شأن، ولا سيما بعد يوم الدار إذ حوصر عثمان فكان أبو هريرة معه. وبهذا نال نضارة بعد الذبول، ونباهة بعد الخمول. سنحت له في تلك الفتنة فرصة الانضواء إلى الدار فأسدى بها إلى آل أبي العاص وغيرهم من الأمويين يدًا كان لها أثرها عندهم وعند أعوانهم ومقوية سلطانهم، فنَضَوْا عنه دثار الخمول وأشادوا بذكره. على أنه لم يَخْفَ عليهم كونه ما استسلم إلى الحصار ولا دخل الدار إلا بعد أن كف الخليفة أيدي أوليائه عن القتال وأمرهم بالسكينة كما قال بعض معاصريه في رثائه! فكف يديه ثم أغلق بابه وأيقن أن الله ليس بغافل، وقال لأهل الدار: لا تقتلوهم. عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل. وانما فعل ذلك احتياطا على نفسه واحتفاظا بأصحابه. وكان أبو هريرة على علم بأن الثائرين لا يطلبون إلا عثمان ومروان، وهذا ما شجعه على أن يكون في المحصورين. ومهما يكن فقد اختلس الرجل هذه الفرصة فربحت صفقته وراجت سلعته، وأكبَّ بعدها بنو أمية وأولياؤهم على السماع منه، فلم يألوا جهدا في نشر حديثه والاحتجاج به، وكان ينزل فيه على ما يرغبون. وكان مما حدثهم به عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن لكل نبي خليلا من أمته، وإن خليلي عثمان. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: عثمان حِبِّي تستحي منه الملائكة. ورووا عنه مرفوعا: لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان. ورووا عنه مرفوعا أيضا: أتاني جبرئيل فقال لي: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقيّة... الحديث".