وهو كلام كله تنطع وسخف، وإلا فهل ينظر أحد إلى وقوف أبى هريرة مع عثمان رضى الله عنه فى ذلك الموقف العصيب هذه النظرة إلا أن يكون حقودا لا يعمل عقله ولا ضميره أبدا فى وزن أقدار الرجال؟ وهل أخذ أبو هريرة على الله عهدا ألا يصيبه أذى، بله أن يُقْتَل، فى هذا الحصار المجنون الذى لم يكن أحد فى وسط تلك العواصف والزعازع يعرف إلام ينتهى ولا كيف؟ وعثمان، ماذا فى أن يثنى عليه سيد الخلق؟ وإذا لم يكن حقيقا بثنائه فلم يا ترى زوجه ابنتيه، وقال له بعد موت الأخيرة: لو كانت لنا ثالثة لزوجناك؟ وما الفرق بينه وبين على، كرم الله وجهه، فى إصهاره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد نال كلاهما الشرف من ذلك الإصهار، فلماذا نفرد عليا بذلك ونحرم عثمان، وعثمان لم يتزوج واحدة من بنات رسول الله بل اثنتين، ولو كانت للرسول بعد موت الثانية بنت أخرى لزوجه إياها؟ هل يتصور الشيعة أنه مما يزيد قدر علىٍّ كرامة وشرفا أن نقلل من مكانة الصحابة الباقين؟ بالعكس فأقدار العظماء إنما تزداد عظمة بوجوده وسط نظراء له لا بين صغار لا ترتفع قاماتهم إلا لأشبار. وعظمة على، وكذلك عظمة الخلفاء الراشدين الآخرين وسائر الصحابة الكبار، هى فى ارتفاع هامة كل منهم وسط هامات أولئك الآخرين. أما قول المؤلف عقب هذا: "خَفَتَ صوت أبي هريرة على عهد أمير المؤمنين، واحتبى برد الخمول، وكاد إن يرجع إلى سيرته الاولى حيث كان هَيّان بن بَيّان، وصلعمة بن قلعمة. قعد عن نصرة أمير المؤمنين فلم ينضو إلى لوائه، بل كان وجهه ونصيحته إلى أعدائه" فلنا عليه سؤال: ما دام أبو هريرة من الدهاء ومعرفة الغيب قبل وقوعه بحيث قد اتخذ لكل حال لَبُوسها وتحسَّب لبلوغ الأمويين سُدّة الحكم، وهو ما لم يكن يخطر لأحد آنذاك على بال، فكيف فاته أن يعمل حساب وصول علىٍّ لمنصب الخلافة، وهو الأمر الذى كان لا بد أن يكون بعدما خلت الساحة ممن يمكن أن يتولَّوْها قبله؟
كما اتهمه (ص30) بأنه "ربما حرف الكلم عن مواضعه كما فعل في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله: ستكون بعدي فتنة واختلاف. قالوا: فما تأمرنا عند ذلك يارسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله، وقد أشار إلى عليّ: عليكم بالامير وأصحابه. لكن أبا هريرة آثر التزلف إلى آل أبي العاص وآل معيط وآل أبي سفيان فروى لهم ان النبي صلى الله عليه وآله أشار في هذا الحديث إلى عثمان. وقد حفظوا له هذا الصنع". والموسوى هنا لا يعترف إلا بأحاديث الشيعة ومن يجرى فى ركابهم، وهى حجة لا تلزم من يخالفونهم. ولو ثبت أن ما نُسِب لأبى هريرة فى هذا الشأن غير صحيح، فلماذا نَحْمِل خطأه عليه هو من دون باقى الرواة؟ وأين الدليل على ذلك؟ ثم هل يعقل أن النبى لم يكن يرى فيمن حوله من الصحابة الكرام العظام أحدا يستحق ثناءه إلا عليًّا على رغم إجلالنا وإكبارنا واحترامنا الكبير لأبى الحسنين؟ ألا إن عليا لجدير بكل ثناء، ولكنه ليس وحده الجدير بالثناء، بل مثله فى ذلك عثمان وعمر وأبو بكر. وأنا من الذين لا يَرَوْن أن نفاضل بين الأربعة، بل نقول فقط إنهم جميعا فضلاء نبلاء، تاركين تلك المفاضلة لربهم سبحانه وتعالى، فكلهم خدم الإسلام بكل قواه لم يأل فى ذلك شيئا، وكلهم اجتهد فى ذلك إلى أبعد مدى، وكلهم من ثم على العين والرأس وفى حبات القلوب. ومع هذا فلو قُدِّر لعلىّ، كرم الله وجهه، أن يتولى الخلافة قبل أبى بكر وعمر وعثمان لكنت من المرحبين السعداء بذلك نفس الترحيب والسعادة اللذين أتقبل بهما تولى أبى بكر إياها قبل على. إنهم عندى جميعا متساوون، رضى الله عنهم جميعا. لكننى لا أرى تولّى أبى الحسنين الخلافة قبلهم أمرا لازما، ودَعْنا من وجوب استمرارها فى ذريته من بعده إلى يوم القيامة.
لقد كان طلحة بن عبيد الله مثلا يعرف لأبى هريرة فضله وعلمه ويقر بأنه كان لديه من العلم ما ليس لدى كثير من الصحابة لظروفه مع رسول الله وملازمته إياه، ولم يقع فى الرجل كما يفعل الموسوى بحنق ورعونة وتعصب كريه، ففى الجزء الثانى من "سير أعلام النبلاء" نجد رواية عن "ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن أبي أنس مالك بن أبي عامر، قال: جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله فقال: يا أبا محمد، أرأيت هذااليماني، يعني أبا هريرة؟ أهو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم. أم هو يقول على رسول الله ما لم يقل؟ قال: أما أن يكون سمع ما لم نسمع فلا أشك. سأحدثك عن ذلك. إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل. كنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، وكان مسكينا ضيفا على باب رسول الله، يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع. ولا تجد أحدا فيه خير يقول على رسول الله ما لم يقل". فانظر كيف ينفى الصحابى الجليل أن يفكر أبو هريرة أو غيره من الصحابة فى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكنت أتمنى أن يتعلم أمثال الموسوى من هذا الكلام النبيل، ولكن ليس كل ما يتمنى المرء يدركه!
لقد ذم الموسوى أبا هريرة أيضا بأنه كان مشايعا للأمويين (بالباطل طبعا، فالشيعة لا ترى فى الأمويين حقا ولا خيرا)، أفلو كان كذلك أكان يروى مثل الحديث التالى الذى يثنى فيه النبى على بعض أهل فارس، ونحن نعرف أن دولة الأمويين لم تكن ترتاح إلا إلى العرب ولا تقرّب سواهم، على عكس دولة بنى العباس، التى كانت تقرّب الفرس وتعتمد عليهم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان الدين عند الثريّا لذهب رجل من فارس أو أبناء فارس حتى يتناوله". كما تصفحت ما رواه له ابن حنبل فى مسنده فقرأت فيه مثلا ما يلى: "حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن عمير بن إسحاق، قال: كنت مع الحسن بن علي فلقِيَنا أبو هريرة فقال: أرني أُقَبِّل منك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل. قال: فقال بقميصه. قال: فقبَّل سرته". أما مروان بن الحكم فإليك، أيها القارئ، ما قاله أبو هريرة فى وجهه يبكّته على صنيع صنعه وهو يبنى داره، وهو متاح لمن يريده فى "مسند الإمام أحمد"، ومثله فى الصحيحين: "حدثنا محمد بن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة، قال: دخلت مع أبي هريرة دار مروان بن الحكم فرأى فيها تصاوير وهي تبنى، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقول الله عز وجل: ومَنْ أَظْلَمُ ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي؟ فليخلقوا ذَرّة أو فليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة. ثم دعا بوضوء فتوضأ وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين. فلما غسل رجليه جاوز الكعبين إلى الساقين فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا مبلغ الحلية". إن الذين أساؤوا إلى الحسين وآله قبل غيرهم إنما هم الذين بتظاهرون بأنهم نصراء أهل البيت، فهؤلاء الذين دَعَوُا الحسين إلى العراق ومَنَّوْه الأمانى، وحين جاءت الفأس فى الرأس انفضوا عنه وتركوه لمصيره المأساوى. إننى لا أبرئ يزيد ورجاله مما اجترحته أيديهم فى حق سبط رسول الله رضى الله عنه، إلا أن الطامة الكبرى إنما أتت من قِبَل من خدعوا حسينا، إذ غرروا به وساقوه لنهايته التعيسة وهم يتظاهرون له بأنهم شيعته الذين يحبونه ويغارون على حقه فى خلافة المسلمين، وعندما جد الجِدّ هربوا وخَلَّوْا بينه وبين رجال الأمويين يصنعون به ما يشاؤون. ألا لعنة الله على من قتلوا ابن فاطمة الزهراء رضى الله عنه، وفصلوا رأسه عن جسده، وعلى من أمر بذلك أو رضى به. ولكنْ لعن الله قبل هذا من كان السبب فى أن انتهى أمر الكريم ابن الكريم تلك النهاية الشنعاء على يد جلاوزة الأمويين!
ويمضى الموسوى فيقول (ص32- 33): "أرسله معاوية (أى أرسل معاويةُ أبا هريرة) مع النعمان بن بشير، وكانا عنده في الشام، إلى علي عليه السلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليَقِيدهم بعثمان. وقد أراد معاوية بهذا أن يرجعا من عند علي إلى الشام وهما لمعاوية عاذران ولعلي لائمان، علما من معاوية أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يكون النعمان وأبو هريرة شاهدين له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهرا للناس عذر معاوية في قتال علي. فقال لهما: ائتيا عليا فانشدناه الله لـمّا دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم، ثم لا حرب بيننا وبينه. فأن ابى فكونوا شهداء الله عليه، وأقبلا على الناس فأعلماهم بذلك. فأتيا عليا فدخلا عليه، فقال له أبو هريرة: يا أبا الحسن، إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا، فأنت ابن عم محمد رسول الله صلى الله عليه وآله. وقد بعثَنا اليك ابنُ عمك يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله به ذات البين: أن تدفع إليه قتلة ابن عمه عثمان فيقتلهم به، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره ويصلح بينكم، وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة. ثم تكلم النعمان بنحو من هذا. فقال لهما: دعا الكلام في هذا. حدثني عنك يا نعمان، هل أنت أهدى قومك سبيلا؟ يعني الأنصار. قال: لا. قال فكلّ قومك قد اتبعني إلا شُذّاذا منهم: ثلاثة أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ؟ قال النعمان: أصلحك الله! إنما جئت لأكون معك وألزمك. وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام. ورجوت أن لي موقفا أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله تعالى بينكما صلحا. فإذا كان رأيك غير ذلك فأنا ملازمك وكائن معك. قال حَفَظَةُ الآثار: أما أبو هريرة فلم يكلمه أمير المؤمنين، فانصرف إلى الشام فأخبر معاوية بالخبر، فأمره معاوية أن يعلم الناس، ففعل ذلك وعمل اعمالا ترضى معاوية. وأقام النعمان بعده عند علي ثم خرج فارًّا إلى الشام فأخبر أهلها بما لقي... إلى آخر ما كان من هذه الواقعة. وحين جد الجد، وحمى وطيس الحرب ورد على أبي هريرة من الهول ما هزم فؤاده وزلزل أقدامه. وكان في أول تلك الفتنة لا يشك بأن العاقبة ستكون لعلي، فضرب الارض بذقنه قابعا في زوايا الخمول يثبط الناس عن نصرة أمير المؤمنين بما يحدثهم به سرا. وكان مما قاله يومئذ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به... إلخ".
وبعيدا عن مدى مصداقية هذا الكلام أو كذبه أود أن أعلن منذ البداية أننى لو كنت حاضرا ذلك الخلاف بين على ومعاوية لاتخذت جانب على بلا أدنى تردد. لكن هل من حقى أنا العبد الضعيف أن أُخْرِج من الإيمان من كان له موقف معاكس لموقفى؟ لا ليس من حقى ولا من حق أحد، بل هو من حق الله وحده، وبخاصة أن الأمر إنما هو أمر خلاف سياسى، على عكس ما يريد الشيعة أن يجرّوا القضية إليه إذ يجعلونها أمر إيمان، فمن لم يؤمن بحق على وذريته من بعده فى الخلافة إلى يوم الدين فهو غير مؤمن. وهو ما لا نوافقهم عليه أبدا رغم ميلنا ناحية على ورؤيتنا أنه أفضل من معاوية. إلا أن الأحداث قد أثبتت أنه، كرم الله وجهه، لم يحاول المرونة فى مواجهة الأحداث وتقديم الأَوْلَى فالأَوْلَى حسب ظروفه وإمكاناته، فضلا عن أنه قد فاته، فيما يبدو، أن الانتصار السياسى لا يتم فقط بالشجاعة وإيمان الشخص بأن معه الحق، بل لا بد من التخطيط والدهاء وتأليف القلوب النافرة والحرص على عدم خسران الناصرين بكل سبيل مستطاعة، وهو ما لا يتعارض بالضرورة مع استقامة الخلق والضمير ونبل الغاية، فلقد كان الرسول أنبل من علىٍّ وأحرص منه على سلامة الهدف ونظافة الطريق، ولم يمنعه هذا من استخدام الدهاء واستغلال السوانح وإنفاق المال فى كسب الأعداء إلى صفه أو تحييدهم على الأقل، وإن كان هذا لا ينال شَرْوَى نَقِير من أخلاق علىٍّ السامقة وإيمانه المكين وعلمه الغزير وفروسيته النبيلة. على أن معاوية لم يكن بالخِلْو من المحاسن والمزايا، بَيْدَ أن كِفّة على ترجح كفة معاوية عندى بكل يقين. كما كان للقَدَر كلمته الفاصلة الحاسمة فى مصير ختن رسول الله، وإلا فلماذا لم يُقْتَل فى مؤامرة الخوارج للتحلص من الثلاثة الكبار فى هذه الخصومة إلا علىٌّ دون عمرو ومعاوية؟ هذه حكمة الله، ولن تجد من مؤمن على حكمة الله اعتراضا!